عبدالرحيم عبدالباري
“مراكز خلف الستار: حين يتحول العلاج إلى خطر داهم” حملة بقيادة د. هاني جميعه تفضح مركزاً وهمياً للإدمان”

في زوايا مظلمة من بعض المدن، قد تختبئ كوارث إنسانية تحت عباءة الرحمة والعلاج، في مراكز تُرفع عليها لافتات الأمل، لكنها تخفي خلف جدرانها ممارسات مخالفة وخطيرة. مركز “الأبطال” لعلاج الإدمان بمدينة منيا القمح بمحافظة الشرقية، لم يكن سوى واجهة لخداع المرضى وأسرهم، قبل أن تفضح الجهات الرقابية حقيقته الصادمة. في هذا التحقيق الصحفي، نغوص في تفاصيل هذا المركز غير المرخص، الذي شكل خطراً صحياً ونفسياً على المواطنين، ونسلط الضوء على الجهود المبذولة لوضع حد لهذه التجاوزات.
واجهة العلاج.. وحقيقة الإهمال
من الخارج، بدا مركز “الأبطال” للطب النفسي وعلاج الإدمان كمكان يُعيد للمرضى حياتهم، لكنه في الواقع لم يكن أكثر من قاعة أفراح تحولت إلى مأوى مؤقت لا يخضع لأي ضوابط طبية. فبدلاً من أن يجد المرضى الرعاية والاهتمام، وُضعوا في بيئة غير آدمية، تفتقر إلى الحد الأدنى من المعايير الصحية، وبإشراف شخص لا يحمل حتى ترخيصاً طبياً. هذه الحقيقة المؤلمة كشفتها حملة تفتيشية قامت بها وزارة الصحة، لتسدل الستار عن ممارسات خطيرة تعرض حياة المواطنين للخطر باسم “العلاج”.

إدمان الربح السريع
من يقف وراء هذه المراكز الوهمية ليسوا أطباء أو مختصين، بل هم غالباً تجار استغلوا حاجة الناس للشفاء، ليحولوا الألم إلى وسيلة للربح. مدير المركز المضبوط في منيا القمح مجرد “عاطل” بلا مؤهلات، وبلا ترخيص قانوني، ومع ذلك سمح لنفسه بإدارة منشأة تعالج مرضى نفسيين ومدمنين. هذه الصورة تكشف جانباً قاتماً من الإهمال، حيث تضعف الرقابة أحياناً، فينشأ ما يشبه السوق السوداء للعلاج، يكون فيها الإنسان هو الضحية الأولى.
الخطر الصحي والبيئي الخفي
الزيارات التفتيشية التي أجرتها لجنة من مديرية الصحة بالشرقية كشفت عن كمٍّ هائل من المخالفات داخل هذا المركز، بداية من انعدام الشروط الصحية الأساسية، وانتهاءً بعدم اتباع سياسات مكافحة العدوى. والأسوأ من ذلك، هو وجود أدوية مخصصة لعلاج أمراض خطيرة مثل نقص المناعة البشرية (الإيدز) في غير مكانها الطبيعي، مما يُثير تساؤلات حول كيفية وصولها إلى هناك. كل هذه العوامل كانت كفيلة بأن تجعل المركز قنبلة صحية موقوتة في قلب المدينة.
غياب الإشراف الطبي.. موت مؤجل
أحد أخطر ما كشفت عنه الحملة أن المركز لا يحتوي على أي إشراف طبي حقيقي. لا أطباء، لا ممرضين، لا رعاية نفسية متخصصة، فقط مرضى تُركوا لمصيرهم وسط غرف متواضعة وإهمال قاتل. وهذا يعكس جريمة مزدوجة: الأولى بحق المرضى الذين وثقوا في المكان، والثانية بحق أهاليهم الذين سلموا أبناءهم طلباً للشفاء، ليفاجأوا بكارثة تنتظرهم. هذه الحالة ليست نادرة، بل تمثل نموذجاً لمراكز غير مرخصة تعمل بعيداً عن أعين

جهود رسمية واستنفار ميداني
إغلاق هذا المركز لم يكن صدفة، بل جاء ضمن خطة محكمة تنفذها وزارة الصحة تحت إشراف مباشر من الدكتور خالد عبد الغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء. الحملة نُفذت بالتعاون مع وزارة الداخلية والأمانة العامة للصحة النفسية، وشهدت حضور شخصيات طبية وتنفيذية رفيعة. هذا النوع من التنسيق بين الجهات يعكس وعياً رسمياً بخطورة الظاهرة، وإصراراً على التصدي لها بكل السبل، حماية لصحة المواطنين وكرامتهم، خاصة في ظل تزايد الإقبال على العلاج النفسي والإدمان.
ما بعد الإغلاق.. سؤال مفتوح
رغم إغلاق المركز واتخاذ الإجراءات القانونية، يبقى السؤال: كم مركزاً مشابهاً لا يزال يعمل في الخفاء؟ هذه الواقعة يجب أن تكون جرس إنذار لكل الجهات المعنية، لتكثيف حملات التفتيش ووضع آليات رقابة مستمرة. في الوقت نفسه، يجب تعزيز وعي المواطنين بكيفية التحقق من التراخيص، وضرورة اللجوء إلى الأماكن المعتمدة فقط. فالمعركة ضد الإدمان لا تنتهي بإغلاق منشأة، بل تبدأ بتأمين بيئة علاجية آمنة وإنسانية، تمنح المرضى فرصة حقيقية للشفاء.
قصة مركز “الأبطال” لم تكن إلا قناعاً زائفاً سقط لتنكشف الحقيقة، حقيقة الاستغلال باسم العلاج، والإهمال باسم الرعاية. لكنها أيضاً دليل على أن اليقظة مستمرة، وأن هناك من يسهر لحماية صحة الإنسان وكرامته. ومن هنا، فإن هذه الحادثة يجب أن تكون حافزاً لتفعيل دور المواطن في الرقابة، إلى جانب الجهات الرسمية، حتى لا تُترك الأرواح فريسة لمن يتاجر بالضعف والألم. فالصحة حق، وليست سلعة.