عبدالرحيم عبدالباري
في لحظة فارقة من تاريخ العمل الصحي العربي، أعلنت وزارة الصحة والسكان فوز قطاع الطب الوقائي والصحة العامة بالمركز الأول عربيًا في جائزة التميز الحكومي العربي (الدورة الرابعة 2025) عن فئة «أفضل مبادرة عربية لتطوير القطاع الحكومي»، عن مشروع ميكنة منظومة التطعيمات الشاملة. لم يكن هذا الفوز مجرد تكريم عابر، بل تتويجًا لمسار طويل من العمل المؤسسي، والتحول الذكي من دفاتر ورقية مثقلة بالأعباء إلى منصات رقمية نابضة بالدقة والكفاءة. هذا الإنجاز لم يأتِ من فراغ، بل هو حصيلة رؤية سياسية واضحة، وإرادة إدارية صلبة، وعقول علمية آمنت بأن الوقاية هي خط الدفاع الأول عن صحة الأوطان.

يمثل فوز قطاع الطب الوقائي بهذا اللقب العربي الرفيع انعكاسًا حقيقيًا لتحول جذري في فلسفة تقديم الخدمات الصحية في مصر، حيث انتقلت الدولة من نماذج تقليدية تعتمد على الاجتهادات الفردية إلى منظومات رقمية متكاملة تقوم على التخطيط العلمي وإدارة البيانات لحظيًا. فميكنة منظومة التطعيمات لم تعد مجرد تطوير تقني، بل أصبحت مشروعًا وطنيًا يعيد صياغة مفهوم الوقاية الشاملة، ويضع صحة المواطن في قلب القرار الصحي. هذا التحول مكّن الدولة من مراقبة معدلات التطعيم بدقة، ورصد الفجوات، والتدخل السريع، وهو ما انعكس بشكل مباشر على استقرار المنظومة الصحية وتقليل المخاطر الوبائية.
وأكد الدكتور خالد عبدالغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان، أن هذا الإنجاز يأتي ثمرة طبيعية لرؤية القيادة السياسية بقيادة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي وضع ملف الصحة على رأس أولويات الدولة الوطنية. وأوضح أن التحول الرقمي لم يعد خيارًا ترفيهيًا، بل ضرورة حتمية لضمان العدالة في توزيع الخدمة الصحية، وسرعة وصولها، ودقتها. وأضاف أن ميكنة التطعيمات أسهمت في بناء قاعدة بيانات وطنية دقيقة، تُمكّن الدولة من اتخاذ قرارات فورية مبنية على الواقع، وتدعم استراتيجيات الوقاية طويلة المدى، وتُعظم من كفاءة الإنفاق الصحي.
ولم يغفل وزير الصحة توجيه الشكر لفريق عمل قطاع الطب الوقائي، ولمركز المعلومات بوزارة الصحة، ووزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، إضافة إلى الشركاء الدوليين الذين ساهموا بخبراتهم ودعمهم الفني في إخراج هذا المشروع الوطني إلى النور. هذا التكاتف المؤسسي عكس نموذجًا فريدًا في العمل التكاملي بين أجهزة الدولة، حيث تحولت الرؤية إلى خطة، والخطة إلى نظام رقمي متكامل، والنظام إلى نتائج ملموسة يشعر بها المواطن في كل وحدة صحية، وكل مركز تطعيم، في صورة طفل محصن، وأم مطمئنة، ووطن أكثر أمانًا صحيًا.
من جانبه، كشف الدكتور حسام عبدالغفار، المتحدث الرسمي لوزارة الصحة، عن الأثر العميق لبرنامج التطعيمات الموسع في تحقيق إنجازات تاريخية غير مسبوقة، أبرزها حصول مصر على الشهادة الذهبية من منظمة الصحة العالمية كأول دولة في إقليم شرق المتوسط تحقق أهداف القضاء على الالتهاب الكبدي الفيروسي «ب». كما أصبحت مصر خالية تمامًا من شلل الأطفال والحصبة والحصبة الألمانية والتيتانوس الوليدي، وهي أمراض كانت يومًا ما تمثل تهديدًا مباشرًا للصحة العامة. هذه النتائج لم تكن صدفة، بل نتاج منظومة رقمية استطاعت أن تربط بين الوقاية والتدخل المبكر والمراقبة المستمرة.
وفي بُعد تقني بالغ الأهمية، أوضح الدكتور عمرو قنديل، نائب وزير الصحة، أن المنظومة الجديدة نجحت في ربط أكثر من 5,000 وحدة صحية ومركز تطعيم على مستوى الجمهورية بشبكة إلكترونية موحدة، بما يضمن تدفق البيانات لحظيًا دون انقطاع. كما تم تفعيل نظام تنبيهات ذكية عبر الرسائل النصية للأمهات لتذكيرهن بمواعيد تطعيم أطفالهن، ما ساهم في رفع معدلات الالتزام وتقليل نسب التسرب. هذه الأدوات الذكية لم تخدم المواطن فقط، بل وفرت لصُنّاع القرار بيانات دقيقة تسمح لهم بالتخطيط الاستراتيجي المبني على الأدلة لا التوقعات.
إن فوز مصر بهذه الجائزة العربية المرموقة يعكس تحوّل قطاع الطب الوقائي من مجرد قطاع خدمي إلى لاعب رئيسي في معادلة الأمن القومي الصحي. فقد أصبحت الوقاية اليوم جزءًا من منظومة الأمن القومي، تمامًا كالدفاع والاقتصاد، لأن الأوبئة لا تعترف بالحدود، ولا تنتظر الإجراءات البطيئة. ومن هنا، يُقرأ هذا الفوز باعتباره رسالة واضحة للعالم العربي بأن الاستثمار في الطب الوقائي والتحول الرقمي ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية لبناء مجتمعات أكثر قوة واستدامة، وأكثر قدرة على مواجهة الأزمات الصحية المستقبلية.
هكذا تكتب مصر فصلًا جديدًا في سجل ريادتها الصحية، ليس فقط داخل حدودها، بل على امتداد الخريطة العربية. فوز قطاع الطب الوقائي بالمركز الأول عربيًا ليس نهاية الطريق، بل بداية مرحلة أكثر طموحًا في مسيرة التحول الرقمي والوقاية الشاملة. وبين قيادة سياسية واعية، ووزارة تمتلك الرؤية، وفرق عمل تؤمن بالرسالة، تتجدد الثقة في أن صحة المصريين لم تعد مجرد أولوية، بل أصبحت مشروع دولة، يُدار بعقل رقمي، ويُحمى بإرادة وطن.