عبدالرحيم عبدالباري
لم تعد الحوكمة في القطاع الصحي مجرد مصطلح إداري يتردد في البيانات الرسمية، بل تحولت إلى أداة استشرافية لإعادة صياغة المستقبل الصحي للمحافظات. ففي ظل تعقيد التحديات وتزايد مطالب المواطنين، أصبح من الضروري الانتقال من الرقابة التقليدية إلى المراجعة الذكية التي تستهدف التطوير لا الإدانة. ومن هذا المنطلق، تأتي تحركات وزارة الصحة والسكان لتؤكد أن الميدان هو الفيصل الحقيقي لتقييم الأداء. وتبرز محافظة الدقهلية كنموذج تطبيقي لهذا التوجه، حيث عكست جولة فريق المراجعة الداخلية والحوكمة ملامح رؤية إصلاحية تتجاوز اللحظة الراهنة نحو بناء منظومة أكثر كفاءة واستدامة.
تنفيذًا لتوجيهات الدكتور خالد عبدالغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان، تواصل الوزارة تكثيف جولاتها الميدانية على المنشآت الصحية ومديريات الشئون الصحية بالمحافظات. هذه الجولات لا تستهدف الرصد فقط، بل تسعى إلى قياس قدرة المنظومة على الالتزام بمعايير الحوكمة والشفافية والانضباط المؤسسي. وفي هذا السياق، تمثل جولة فريق المراجعة الداخلية والحوكمة بالدقهلية ترجمة عملية لرغبة الوزارة في رفع كفاءة الأداء، وضمان أن تكون الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين آمنة وعالية الجودة، ومبنية على أسس إدارية ومالية واضحة ومستقرة.
وأوضح الدكتور حسام عبدالغفار، المتحدث الرسمي لوزارة الصحة والسكان، أن فريق الإدارة العامة للمراجعة الداخلية والحوكمة أجرى مراجعة شاملة استمرت أسبوعاً كاملاً داخل ديوان مديرية الشئون الصحية بالدقهلية. وبدأت المراجعة بفحص الهيكل التنظيمي للمديرية، والإدارات المستحدثة، بهدف التأكد من توافقها مع طبيعة المهام المطلوبة وتوزيع الأدوار بشكل يمنع التداخل أو التعارض. كما شملت المراجعة تقييم أداء الإدارات الفنية، خاصة في قطاعات الطب العلاجي والوقائي والرعاية الأولية، باعتبارها الركائز الأساسية لتقديم الخدمة الصحية المباشرة للمواطن.
وامتدت أعمال الفريق إلى متابعة المشروعات الصحية الجاري تنفيذها، في محاولة لربط الخطط المعلنة بما يتحقق فعلياً على أرض الواقع. كما أولت المراجعة اهتماماً بالغاً بمنظومة المخازن وسلاسل الإمداد، بما في ذلك أرصدة الأدوية والمستلزمات الطبية والتطعيمات، لضمان توافرها بالكميات المناسبة وفي التوقيتات المطلوبة. ولم يغفل الفريق فحص الأعمال المالية والإدارية والموقف المالي للمستشفيات والإدارات الصحية، باعتبار الانضباط المالي أحد الأعمدة الرئيسية لاستدامة أي إصلاح صحي حقيقي.
وفي إطار العمل التشاركي، عقد فريق المراجعة اجتماعاً مع الدكتور حمودة الجزار، مدير مديرية الشئون الصحية بالدقهلية، بحضور قيادات المديرية، لمناقشة الملاحظات والسلبيات التي تم رصدها. وتم خلال الاجتماع عرض مقترحات عملية للتحسين، شملت زيادة السعة الاستيعابية للمخازن الإقليمية، وتطوير بعض الخدمات الصحية القائمة، إلى جانب إضافة خدمات جديدة لقوائم الانتظار. هذه المقترحات تعكس توجهاً نحو تحسين كفاءة الخدمة وتوسيع مظلة التغطية الطبية، بما يتماشى مع احتياجات المواطنين الفعلية.
وتناول الاجتماع بشكل معمق آليات حوكمة الإجراءات التشغيلية الفنية والمالية والإدارية، باعتبارها الضمان الحقيقي لاستمرارية التطوير. كما تم بحث حوكمة خطط المرور والمتابعة، لضمان عدم اقتصار المتابعة على فترات زمنية محددة، وتحويلها إلى عملية مستمرة تقيس الأداء وتصححه بشكل دوري. هذا الطرح يعكس إدراكاً متقدماً بأن الحوكمة ليست قراراً إدارياً، بل ثقافة مؤسسية يجب أن تتغلغل في جميع مستويات العمل داخل المنظومة الصحية.
وفي مقابل رصد الملاحظات، أشاد فريق المراجعة بالتعاون الإيجابي من مديرية الشئون الصحية بالدقهلية، مثمناً تفعيل منصة «صوتك صحة» لتلقي شكاوى المواطنين والتعامل معها بشكل فوري. هذا التفاعل السريع يعزز ثقة المواطن في المنظومة الصحية، ويجعل من الشكوى أداة لتحسين الأداء لا مجرد وسيلة اعتراض. كما يسهم ذلك في رفع مستوى رضا متلقي الخدمة، ويؤكد أن صوت المواطن أصبح عنصراً أساسياً في معادلة التطوير الصحي.
تكشف تجربة الدقهلية أن الحوكمة، حين تُطبق بجدية، قادرة على إحداث تحول حقيقي في أداء المنظومة الصحية. فبين توجيهات الدكتور خالد عبدالغفار، ورؤية الدكتور حسام عبدالغفار، وتعاون الدكتور حمودة الجزار وقيادات المديرية، تتبلور ملامح نموذج إصلاحي يمكن البناء عليه في باقي المحافظات. نموذج يؤكد أن الانتقال من التفتيش إلى التطوير، ومن المكاتب إلى الميدان، ليس خياراً، بل ضرورة لصناعة مستقبل صحي أكثر كفاءة وعدالة واستجابة لاحتياجات المواطنين.