عبدالرحيم عبدالباري
حين تتجاوز القرارات الاقتصادية حدود الأرقام، وتلتقي السياسات النقدية مع الاحتياجات الإنسانية العاجلة، تتشكل لحظة فارقة في مسار الدولة الحديثة. من هذا المنطلق جاء تجديد بروتوكول التعاون بين وزارة الصحة والسكان والبنك المركزي المصري، ليؤكد أن إدارة الملف الصحي لم تعد شأنًا خدميًا تقليديًا، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من رؤية شاملة للتنمية البشرية. مشهد التوقيع، بحضور قيادات اقتصادية وصحية رفيعة المستوى، عكس فلسفة جديدة قوامها أن صحة المواطن ليست بندًا إنفاقيًا، بل استثمار وطني طويل الأجل.

شهد السيد حسن عبدالله محافظ البنك المركزي المصري، والدكتور خالد عبدالغفار نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية ووزير الصحة والسكان، مراسم تجديد بروتوكول التعاون مع صندوق مواجهة الطوارئ الطبية والأمراض الوراثية والنادرة لمدة ثلاث سنوات إضافية، في إطار تنفيذ توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي بالقضاء على قوائم الانتظار. هذا الحدث لم يكن مجرد إجراء إداري، بل رسالة سياسية واضحة تؤكد أن الدولة تتحرك بتنسيق كامل بين مؤسساتها المالية والصحية لمواجهة أكثر الملفات حساسية وتأثيرًا على حياة المواطنين.
ويأتي هذا التجديد امتدادًا للبروتوكول الموقع في نوفمبر 2024، لكنه يحمل زخمًا أكبر من حيث الأهداف والنتائج المنتظرة، إذ يستهدف تخفيف معاناة المرضى خلال فترات الانتظار الطويلة، خاصة غير المشمولين بمنظومة التأمين الصحي. ويعتمد البروتوكول على توفير التدخلات الجراحية الحرجة بشكل عاجل، مع تغطية كاملة للتكاليف، بما يخفف الأعباء المالية عن الأسر المصرية، ويمنح المرضى فرصة حقيقية للعلاج في التوقيت المناسب دون الوقوع تحت ضغط العجز المادي.
وقعت البروتوكول السيدة غادة توفيق، وكيل محافظ البنك المركزي للمسؤولية المجتمعية، والدكتور إبراهيم عبدالعاطي المدير التنفيذي لصندوق مواجهة الطوارئ الطبية، بحضور قيادات بارزة من البنك المركزي ووزارة الصحة، من بينهم الأستاذ الدكتور أحمد مصطفى رئيس الهيئة العامة للتأمين الصحي. هذا الحضور المتنوع عكس تكامل الأدوار بين مؤسسات الدولة، وأكد أن المنظومة الصحية تعمل وفق رؤية تشاركية، تضع المريض في قلب الاهتمام، وتستثمر كل الإمكانات المتاحة لتحقيق أقصى أثر ممكن.

وأكد السيد حسن عبدالله أن تجديد البروتوكول يعكس استمرار التعاون المثمر بين القطاع المصرفي ووزارة الصحة، مشيرًا إلى أن هذا التعاون أسفر عن تمويل مستدام لآلاف العمليات الجراحية الحرجة. وأوضح أن المبادرة ساهمت في تقليل فترات الانتظار لأكثر من 26 ألف مريض في تخصصات دقيقة مثل جراحات القلب المفتوح، وقسطرة ودعامات القلب، فضلًا عن توفير آلاف المفاصل الصناعية ومئات عمليات زراعة القرنيات بالتعاون مع هيئة الشراء الموحد.
وأضاف محافظ البنك المركزي أن القطاع المصرفي سيواصل أداء دوره المجتمعي انطلاقًا من مسؤوليته الوطنية، مؤكدًا أن دعم المبادرات الصحية لم يعد خيارًا، بل التزامًا أخلاقيًا وتنمويًا. وأشار إلى أن النجاحات المحققة خلال السنوات الماضية تشكل دافعًا قويًا لتوسيع نطاق الدعم، والوصول إلى شرائح أوسع من المستفيدين، بما يتسق مع رؤية مصر 2030 التي تضع التغطية الصحية الشاملة وجودة الخدمات في صدارة أولويات الدولة.
من جانبه، أشاد الدكتور خالد عبدالغفار بجهود البنك المركزي والقطاع المصرفي في دعم المنظومة الصحية، مؤكدًا أن تجديد البروتوكول لثلاث سنوات إضافية يمثل ترجمة عملية للالتزام باستدامة الدعم، وليس مجرد استجابة مؤقتة. وأوضح أن هذا التعاون ينعكس مباشرة على تحسين جودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، وتسريع وتيرة التدخلات الطبية، بما يضمن تقليل معدلات المضاعفات، وحماية المرضى من مخاطر التأخير.
ويحمل هذا البروتوكول بعدًا استراتيجيًا يتجاوز الأرقام والعمليات، إذ يعزز ثقة المواطن في قدرة الدولة على إدارة الأزمات الصحية بكفاءة ومرونة. فربط الموارد المالية بالاحتياجات الطبية العاجلة يخلق نموذجًا متقدمًا في الحوكمة الصحية، ويؤسس لمنظومة قادرة على الاستجابة السريعة للطوارئ، خاصة في ظل التحديات المتزايدة التي تفرضها الأمراض النادرة والحالات الحرجة ذات التكلفة المرتفعة.
كما يفتح تجديد البروتوكول آفاقًا أوسع لتطوير سياسات إدارة قوائم الانتظار، وربطها بآليات تمويل مستدامة، بما يسمح بالتخطيط طويل الأجل بدلًا من الحلول المؤقتة. ويؤكد هذا النهج أن الدولة المصرية تتجه بثبات نحو نموذج متكامل، تتقاطع فيه السياسة النقدية مع نبض المستشفيات، وتتحول فيه الشراكات المؤسسية إلى مظلة حماية حقيقية للمرضى في مختلف أنحاء الجمهورية.
في النهاية، يعكس هذا البروتوكول الممدد لثلاث سنوات إضافية ملامح تحالف وطني واعٍ، يدرك أن التنمية البشرية تبدأ من غرفة العمليات قبل أي مكان آخر. إنه نموذج عملي لكيف يمكن للسياسات الاقتصادية أن تخدم الإنسان مباشرة، وأن تتحول الأرقام والموارد إلى فرص حياة، في دولة اختارت أن تجعل من صحة مواطنيها حجر الزاوية في مشروعها التنموي الشامل.