عبدالرحيم عبدالباري
لم تعد صحة اللاجئين ملفًا إنسانيًا هامشيًا، بل تحولت إلى اختبار حقيقي لقدرة الدول على استشراف المستقبل وبناء نظم صحية قادرة على الصمود. وفي منطقة تموج بالأزمات والنزاعات، اختارت مصر أن تتعامل مع هذا الملف من زاوية مختلفة، قوامها أن الرعاية المبكرة هي خط الدفاع الأول قبل انفجار الطوارئ. هذه الفلسفة، التي وضعت الإنسان في قلب السياسات الصحية، جعلت من التجربة المصرية نموذجًا إقليميًا تتقاطع فيه الجغرافيا مع المسؤولية، وتتحول فيه الحدود من عائق إلى مجال للحماية المشتركة.

أكد الدكتور محمد حساني، مساعد وزير الصحة والسكان لشؤون مبادرات الصحة العامة، في كلمة نيابة عن الدكتور خالد عبدالغفار نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان، أن مصر تمثل مركزًا إنسانيًا ومحورًا أساسيًا للأمن الصحي الإقليمي. وأوضح أن إحاطة مصر بدول تشهد طوارئ صحية ممتدة فرض عليها دورًا مضاعفًا في دعم صحة اللاجئين والمهاجرين، ليس فقط بدافع إنساني، بل باعتباره جزءًا لا يتجزأ من حماية الصحة العامة والاستقرار المجتمعي داخل الدولة وخارجها.
وجاءت هذه الرؤية خلال افتتاح ورشة العمل الدولية المنعقدة بالتعاون مع المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض (ECDC)، بعنوان “تعزيز الجاهزية والاستجابة وتوفير خدمات الرعاية الصحية في سياق الأزمات الإنسانية التي تطال المهاجرين”، والتي عُقدت في الفترة من 16 إلى 18 ديسمبر 2025. وتعكس هذه الورشة إدراكًا دوليًا متزايدًا بأن التجربة المصرية تجاوزت إطار الاستجابة المؤقتة، لتصبح نموذجًا عمليًا في بناء الجاهزية الصحية المستدامة، القادرة على التعامل مع الأزمات قبل تفاقمها.
وأشار «حساني» إلى أن التحديات الإنسانية تتسارع على المستويين الإقليمي والعالمي، في ظل موجات نزوح حادة من السودان وغزة وسوريا واليمن، وهو ما يفرض ضغوطًا غير مسبوقة على النظم الصحية. وأكد أن مواجهة هذه التحديات تتطلب تضامنًا جماعيًا، وتنسيقًا عابرًا للحدود، واستثمارًا في الوقاية والرعاية الأولية، بدل الاكتفاء بإدارة الأزمات بعد وقوعها، وهي المقاربة التي تبنتها مصر في تعاملها مع ملف اللاجئين.
وأوضح أن مصر تستضيف أكثر من 9 ملايين لاجئ ومهاجر من 133 جنسية، معظمهم مقيمون لفترات طويلة، وتتبع الدولة سياسة عدم إقامة مخيمات، مفضلة دمجهم في منظومة الخدمات الوطنية. ويستند هذا النهج إلى مبدأ “عدم ترك أحد خلف الركب”، حيث يحصل اللاجئون والمهاجرون على خدمات صحية متساوية تشمل الرعاية الصحية الأولية، وصحة الأم والطفل، والأمراض غير السارية، والصحة النفسية، والتطعيمات، وتسجيل الوقائع الحيوية، بما يعزز العدالة الصحية ويحد من المخاطر الوبائية.
كما استعرض مساعد الوزير جهود فحص الوافدين على المنافذ الحدودية، وتقديم الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية اللازمة، إلى جانب تسجيل المواليد، وتوفير جرعات التطعيم للأطفال غير المصريين بمعدلات تغطية مرتفعة. وأشار أيضًا إلى الدور الإنساني المصري في تنسيق وتقديم مساعدات صحية وإنسانية ضخمة إلى قطاع غزة عبر معبر رفح ومطار العريش، في مشهد يعكس قدرة الدولة على التحرك السريع والمنظم في أوقات الأزمات، رغم تعقيد الظروف وكثافة التحديات.
وأضاف أن خطة الاستجابة الوطنية لعام 2025 نجحت في تقديم خدمات صحية أساسية للاجئين والمجتمعات المستضيفة، مع توسيع نطاق الخدمات في المناطق ذات الكثافات السكانية المرتفعة، رغم محدودية التمويل. واختتم بالتأكيد على أن الجاهزية الحقيقية للأزمات الإنسانية لا تتحقق إلا عبر نظم صحية مرنة وشاملة، ترتكز على الرعاية الصحية الأولية، مدعومة بترصد وبائي قوي، وتنسيق إقليمي ودولي فعال، وتمويل عادل يشمل اللاجئين باعتبارهم جزءًا من النسيج الصحي للمجتمع.
تقدم مصر اليوم نموذجًا يتجاوز منطق الطوارئ إلى فلسفة الرعاية الاستباقية، حيث تصبح الصحة جسرًا يعبر الحدود بدل أن تتوقف عندها. فحين تختار الدولة أن تستثمر في الوقاية، وتدمج اللاجئين في منظومتها الصحية، فإنها لا تحمي ملايين البشر فحسب، بل تصنع أمنًا صحيًا إقليميًا أكثر استقرارًا. وبهذا النهج، تتحول الرعاية قبل الطوارئ من شعار إنساني إلى استراتيجية دولة، ومن عبء محتمل إلى ركيزة لمستقبل صحي أكثر أمانًا للجميع.