إنه وفي لحظة تاريخية تلمّس شغاف قلوب الملايين في منطقة البحيرات العظمى الأفريقية، حيث تتنهد الأرض بعد عقود من الحرب التي أزهقت أرواح الملايين، تعلو كلمة الشكر الصادق من قادة عانوا الأمرّين. رئيس رواندا، بول كاغامي، يوجه تحية إجلال وامتنان عميقين ليس إلى قوة عظمى، بل إلى دولة قطر وأميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. هذه الشهادة ليست مجرد بروتوكول دبلوماسي؛ بل هي اعتراف من القلب بأن مسار السلام الحقيقي لا يشقه سوى الإرادة الصادقة والوساطة النزيهة. في المقابل، ومن على بعد آلاف الأميال، يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ببراعة الدعاية المعتادة، أن يخطف الأضواء وينسب الفضل لنفسه في “ثامن حرب ينهيها”، في مشهد يكشف التناقض الصارخ بين صنع السلام الحقيقي والادعاء الفارغ.
رواندا تشكر قطر: اعتراف بالدور المحوري والوساطة النزيهة
لم تكن كلمات الشكر التي وجهها الرئيس الرواندي بول كاغامي لدولة قطر مجرد عبارات عابرة، بل جاءت تعبيراً عن تقدير جوهري لدور محوري ومختلف. ويعود هذا النزاع في جذوره إلى تداعيات الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، التي أدت إلى تدفق ملايين اللاجئين والمقاتلين إلى شرق الكونغو، مما أشعل شرارة صراع معقد تداخلت فيه المطالبات العرقية والصراع على الموارد المعدنية الهائلة “مثل الذهب والكولتان”، وتورطت فيه دول الجوار وميليشيات محلية وعابرة للحدود على مدار ثلاثة عقود، ذهب ضحيتها قرابة 6 ملايين شخص حسب تقارير الأمم المتحدة حول الصراع في الكونغو الديمقراطية بين
1996-2023
وقد تجسّد هذا التقدير عملياً من خلال التزام الحكومة الكونغولية الكامل بالمسار التفاوضي في الدوحة، حيث وقّعت على “إعلان المبادئ” في يوليو 2025، ثم على “اتفاق الدوحة الإطاري للسلام” الشامل مع حركة “23 مارس” في نوفمبر من العام نفسه. ويُعد توقيع هذه الاتفاقات المتتالية دليلاً واضحاً على ثقة كينشاسا بالوساطة القطرية ورغبتها الجادة في إنهاء الصراع.
فقد أشاد كاغامي صراحة بدور قطر كوسيط نزيه في حل النزاعات الإقليمية، مع التركيز بشكل خاص على جهودها الحثيثة في أزمة شرق الكونغو الديمقراطية المعقدة. هذا النزاع، الذي تفاقم بسبب اتهامات لرواندا بدعم جماعات متمردة، وجد في الدوحة منبراً حيادياً جمع الأطراف المتصارعة. لم تكن قطر مجرد مضيفة، بل كانت فاعلاً دبلوماسياً نشطاً، عمل بالتعاون مع شركاء دوليين على تهيئة بيئة تفاوضية غير مسبوقة، واستضافت محادثات مباشرة بين حكومة الكونغو وحركة “23 مارس” المتمردة، مما مهّد الطريق لتسوية مؤقتة وأخيراً لاتفاق سلام شامل. هذا النهج القائم على الثقة والحياد هو ما ميز الوساطة القطرية وجعلها تحظى بتقدير دولي واسع، بما في ذلك ترحيب مجلس التعاون الخليجي وإشادة الاتحاد الأفريقي بدورها البارز.
ويبدو أن هذا التقدير الدولي ليس وليد اللحظة، بل يستند إلى منهجية وساطة معترف بها. ففي تقرير لمركز “ستيمسون” للأبحاث، وُصفت دبلوماسية قطر بأنها “تعتمد على رأس مالها السياسي كوسيط نزيه وذي مصداقية، وقدرتها على التحدث إلى جميع الأطراف”. من جهة أخرى، يشير تحليل لمعهد “إنترناشونال كرايسس جروب” إلى أن نجاح الوساطة في ملفات كالكونغو يعزز من مكانة قطر كفاعل إقليمي لا يمكن تجاوزه في أزمات الشرق الأوسط وأفريقيا.
استثمار في النفوذ: الدوافع الإستراتيجية للدبلوماسية القطرية
لا ينفصل نجاح قطر في هذا الملف عن إستراتيجيتها الخارجية الأوسع. فمنذ الحصار الخليجي “2017-2021″، عززت الدوحة سياستها القائمة على ‘الدبلوماسية النشطة’ وبناء شبكة عالمية من العلاقات. يحلل الخبراء، كما في دراسة لمجلة ‘ذا إكونوميست’، أن الوساطة الناجحة في نزاعات معقدة كالكونغو تخدم أهدافاً قطرية متعددة: تعزيز صورتها كدولة فاعلة للخير العالمي، وبناء رصيد سياسي مع القوى الأفريقية الكبرى يمكن استثماره في مجالات الطاقة والاستثمارات الاقتصادية، وتأكيد استقلاليتها وسعتها الدبلوماسية على المسرح الدولي بعيداً عن محيطها الخليجي المباشر. وبالتالي، فإن الوساطة ليست عملاً إنسانياً محضاً، بل هي استثمار ذكي في النفوذ السياسي والمرونة الجيوسياسية على المدى الطويل. وتأتي هذه الوساطة في توقيت بالغ الأهمية مع تقارب قطري-أمريكي ملحوظ في ملفات إقليمية أخرى، مما يعزز موقع الدوحة كشريك لا غنى عنه في الدبلوماسية الدولية.
الرواية الأمريكية: بين الإنجاز الدبلوماسي والاستغلال السياسي
في واشنطن، قدّم الرئيس ترامب الاتفاق على أنه ثمرة للفعالية الأمريكية المباشرة، قائلاً: “هذا هو ثامن صراع نساعد في حله”. وهذا الادعاء، رغم أنه يسلط الضوء على دور الدبلوماسية الأمريكية في دعم المفاوضات، إلا أنه يتجاهل الطبيعة التراكمية والمعقدة لجهود السلام. تشير تقارير لوسائل إعلام مثل “فورين بوليسي” إلى أن إدارة ترامب، بينما تدعم الوساطات، غالباً ما تفضل “صفقات كبيرة” قابلة للترويج سياسياً على العمل الدبلوماسي الطويل الأمد. وقد لوحظ هذا النمط في محاولاتها السابقة في أفغانستان والشرق الأوسط، حيث طغت الرغبة في تحقيق “انتصار” إعلامي على متابعة تنفيذ التفاصيل الدقيقة للاتفاقيات.
ولم تنكر الإدارة الأمريكية دور قطر، بل أشاد مساعد وزير الخارجية لشؤون أفريقيا، تيبور ناجي، علناً بالدور “الحاسم” للوساطة القطرية، مما يشير إلى اعتراف واقعي بالشراكة في هذا الملف على أرض الواقع، حتى مع اختلاف الروايات العلنية حول من يحظى بالفضل. انتقد خبراء، مثل ديفيد ميليكان من مجلس الأطلسي، هذا النهج، مشيرين إلى أن “السلام الحقيقي يحتاج إلى التتبع اليومي بعد التوقيع، وليس فقط إلى مؤتمر صحفي للإعلان عنه”.
مشهد السلام العالمي: تضارب الروايات وتآكل الثقة
تُظهر الأزمة في الكونغو ورواندا مشهداً أوسع للسلام العالمي اليوم، حيث تتناقض الروايات وتتآكل الثقة في المؤسسات الدولية. فبينما تحقق جهود الوساطة الإقليمية النزيهة، مثل جهود قطر، نجاحاً ملموساً، تتعثر الآليات متعددة الأطراف. لقد شلّ الفيتو الأمريكي المتكرر عمل مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بصراعات كبرى، مثل الحرب في غزة، مما اضطر الجمعية العامة للأمم المتحدة للتدخل لتبني قرار بوقف إطلاق النار بأغلبية ساحقة وصلت إلى 149 دولة، في حين عارضته الولايات المتحدة وإسرائيل. ويواجه النظام القضائي الدولي هو الآخر هجوماً شرساً، حيث تستهدف إدارة ترامب المحكمة الجنائية الدولية بعقوبات تهدف إلى تقويض ولايتها. هذا الهجوم على المؤسسات القائمة على القانون لا يهدد العدالة فحسب، بل يعكس أيضاً “هجوماً أوسع على سيادة القانون العالمي”. وفي أماكن أخرى، مثل العراق، تظهر الضغوط الأمريكية جلية في محاولات التأثير على القرارات الداخلية، مما يخلق أزمات سياسية ويُظهر هشاشة السيادة في ظل سياسات الهيمنة.
في معنى السلام الحقيقي وتزييف التاريخ
وأختم مقالي بالقول: إنه لا يخطئ البصر الفطن الفارق الشاسع بين مشهدين: مشهد الاعتراف الصادق الآتي من قلب إفريقيا، حيث يشكر قائد عرف المعاناة دولةً صغيرة قدمت جهداً نزيهاً، ومشهد الادعاء الصادر عن البيت الأبيض، حيث يسعى سياسي محترف لتلميع صورته بفضائل استعارها. قطر، بوساطتها الصبورة وحيادها المثبت، نسجت خيوط الثقة بين أطراف كان اليأس قد أنهكها. أما إدارة ترامب، فبسجلها الحافل بالانحياز والعداء للمؤسسات الدولية، وتحالفها الوثيق مع قوى الاحتلال، تقدم نفسها كطرف يمكنه “صنع السلام” فقط عندما يخدم ذلك سرديتها السياسية. الحقيقة الساطعة هي أن السلام ليس رقماً يضاف إلى سجل شخصي، كما يحاول ترامب تصويره بـ”ثامن حرب”. السلام ثمرة إرادة جماعية ووساطة نزيهة واحترام لإنسانية جميع الأطراف. إن محاولات سرقة فضل السلام في الكونغو ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة من تزييف الحقائق، تزامناً مع فرض عقوبات على القضاة الذين يجرؤون على محاسبة مجرمي الحرب، ومعارضة إرادة العالم بوقف مجازر غزة. في النهاية، يتحدث السلام الحقيقي بلغة النتائج والاعترافات الصادقة، أما الادعاءات الفارغة فتبقى حبراً على ورق دعاية يطويه النسيان، بينما يبقى الأثر الإنساني العميق لدبلوماسية الجسور هو ما يُخلّد في تاريخ الأمم.