
لقد وصل بنا القطار إلى محطة الاستغناء… (الطظ)
عبرتُ خلال سنواتٍ طوال بين محطات من الأزمات التي فاقت قدرتي على العدّ، مزيج بين صعوبات مادية، وأمراض أنهكت الجسد، وانكسارات نفسية، وضغوط معنوية، لكنها جميعًا لم تكن بثقل تلك التي سببتها لي العلاقات الإنسانية، خصوصًا مع من أحسنت إليهم بصدق. نعم، أحسنت، لا بمعنى العطاء المادي، بل بمعناه الإنساني البحت، عطائي في الكلمة والنية والاحتواء.
أنا مثل كل إنسانة، لديّ وجوه كثيرة أرتديها في مواقف الحياة. أحيانًا قوية لا تُكسر، وأحيانًا ضعيفة لا تُرى. في داخلي موجات متلاطمة من الانفعالات، أنجح وأفشل، أهدأ وأثور، أبتسم وأبكي، لكني دومًا أسعى إلى تجاوز كل هذا محملةً بروحٍ تميل إلى الخير، فطرة خلقت بها، وقلبي يأبى أن يحمل ضغينة.
أحب العلاقات، وأتشبث بدفء الأهل، وبونس الأصدقاء، ولا أخرج من علاقة مهما كانت إلا بعد أن أترك فيها أثرًا وذكرى، وربما رفيقًا أو صديقًا يستمر. لا أحب تسميتهم أصدقاء فقط، بل “رحماء”، لأنهم اختيروا بعناية ليكونوا سندًا، لا مجرد أسماء تمر. من يقف بجانبي وقت الألم، ويعطيني دون طلب، هو من يستحق أن يكون جزءًا من عالمي.
لكن هذه الدنيا تعلمنا بالوجع، تريك الوجوه، وتكشف ما وراءها. ومع مرور السنوات، ونضوجي العقلي والزمني، وبلوغي محطتي الحالية التي تتقاطع فيها الأربعين من العمر مع مشاعر كثيفة، تيقنت أن هناك طاقة لا يجب تبديدها، وأنه آن أوان استخدام الكارت الأبيض، كارت السلام النفسي.
أطلقت عليه “كارت الاستغناء”، وهو قرار عميق، واعٍ، أن أتخلى عمّن أرهقني، عن كل من نزع مني ابتسامتي، عن كل موقفٍ سبّب لي ألمًا أو توترًا أو ضيقًا أو حزنًا عابرًا أو دائمًا. أن أستغني عن المجاملات التي ترتديها الملامح، عن التصنع، عن مسايرة علاقات لا تمنحني سوى الخسائر.
لم يعد يرضيني أن تسير الحياة على حساب راحتي، ولا على حساب مشاعري المرهقة. لا يمكن أن أواصل تحمل أدوار ليست لي، لأجل تسيير مراكب لا وجهة لها. فقررت الانسحاب من كل ما يؤذيني، ولو كان من صنع يدي، ولو كانت المقاديف مقاديفي.
أريد أن أعيش ما تبقى لي من العمر بسلام. لا أبحث عن الكمال، ولا عن الرفاهية، بل عن صفاء لا تعكره تفاصيل تافهة، عن لحظة لا تُسرق، عن راحة لا تُمزقها صراعات. أنا إنسانة راضية تمامًا بما قدّره الله لي، بما منحه، وبما أخذه، بما أسر قلبي، وبما أحزنه. فكل ما يأتي من ربي خير، وأنا أعي ذلك وأشكره.
لكن كل ما كان من صنع البشر، مما فعله بعضهم بي، وما زرعوه في روحي من أوجاع، لا أقبله بعد اليوم. خذلانهم المتكرر، إساءاتهم، تجاهلهم، تحقيرهم لمشاعري، ولعطائي الذي لم يكن يومًا واجبًا. لا أريد أن أتحمل من لا يقدر، ولا أن أعفو عن من يستبيح الأذى، ولا أن أُجامل من يجرح ويتلذذ بالخذلان.
قررت أن أخلع تلك القبعة التي أرهقتني، قبعة “التحمل الاجتماعي”، قبعة “المجاملات”، قبعة “التغاضي المستمر” من أجل استقرار زائف. لن أضغط على أعصابي، ولا على ملامحي، ولا على روحي، لأُرضي من لا يستحق، ولن أرتكب جريمة الصبر على من أنهكني.
لكل من خذلني في ضعفي، أو مرضي، أو حتى قوتي…
لكل من تجاهل مشاعري، وسخّف من وجودي، واستهان بعطائي…
لكل من لم يرد غيبتي حين غبت، ولم يراني حين حضرت…
أقولها بصدق: طظ.
كلمة بسيطة، كنا نرددها في طفولتنا عندما لا نعبأ بما يزعجنا. لكنها اليوم تحمل عمقًا، وقوة، ومعنى كبيرًا. نعم، طظ لكل من لم يرَ قيمتي. طظ في من لم يُقدر محبتي. طظ لمن اختار إيذائي، أو التقليل مني. طظ لكل من أراد أن يُفسد صفو أيامي، أو أن ينتقص من كرامتي.
من اليوم، سأحمي نفسي من السامّين، من المُرهقين، من المتلاعبين. سأحميها من كلماتهم الجارحة، من نظراتهم المسمومة، ومن وجودهم الثقيل. سأرسم حدودي، ولن أسمح لأحد أن يتخطّاها.
سأبدأ من جديد، بلا شقاء، بلا أكاذيب عاطفية، ولا أشباه صداقات. سأعيش كما أستحق، لا كما يريد الآخرون. سأنتقي من أرافق، وأستبقي من يُضيف لي، وأبتعد دون ضجيج عن كل من رأيته بقسوة القلب أو بخبث النية.
اليوم، أقطع على نفسي عهدًا أن لا أُجبر قلبي على احتمال المزيد، ولا أن أُجبر عقلي على التبرير، ولا أن أُقنع روحي بالصبر على من يؤذيها. لمن تجاهل، وأسرف في الجفاء، وتغافل عن الحب الذي أعطيتُه: انتهت الحكاية.
طظ، نعم طظ، لكل من لا يراني… طظ لكل من يقلل مني، من إنسانيتي، من طيبتي، من صدقي، من شفافيتي. طظ في كل علاقة أضرتني أكثر مما أفادتني، طظ في كل كلمة جارحة قيلت، في كل خذلان متكرر.
كلمة “طظ” ستبقى راية بيضاء أرفعها أمامهم، إعلان استقلالي عنهم. هديتي لهم بعد كل ما قدمت، وبعد كل ما تحملت. هذه المرة، سأجني أنا الثمار، ثمار قراري، وهدوئي، وسلامي.
لكل من يقرأ هذه الكلمات…
تذكروا طفولتكم، صدقها، نقاءها.
أحبوا من يحبكم، لا من يتصنع.
اضحكوا مع من يُفرح قلوبكم، لا من يُثقلها.
تخلّوا عن الحسابات، وامنحوا مشاعركم لمن يستحق.
فالمشاعر لا تنمو إلا برعاية مماثلة، والعطاء لا يُثمر إلا في بيئة تقدير.
لا تسيروا على حساب قلوبكم فقط ليبقى القطار مستمرًا، فقد ينتهي بكم في محطة خالية، بلا رفقة، بلا حب، بلا سند.
وفي النهاية…
لن تجدوا إلى جانبكم إلا من يحبكم بصدق…
بل ويحبكم بقوة.