
حسين السمنودي
حين تتداخل الحقائق بالأوهام، وتتشابك الشعارات الجوفاء مع الكلمات البراقة، يصبح من الضروري أن تتقدم مؤسسات الوطن الصفوف لتعيد للوعي بريقه، وللحق مساره. وهنا برزت وزارة الأوقاف المصرية بمبادرتها الوطنية الكبرى “صحح مفاهيمك”، تلك الحملة التي لا تسعى فقط إلى توضيح الأمور الدينية بصفاء النصوص وأمانة الفهم، بل تخوض معركة مصيرية من أجل بقاء الوطن نفسه، صامدًا، متماسكًا، موحدًا في وجه عواصف التشكيك ومحاولات الطمس.
“صحح مفاهيمك” ليست مجرد شعار عابر أو حملة وعظية تقليدية، بل مشروع وطني ضخم يرتكز على قناعة راسخة بأن صيانة الوعي العام ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية. كانت البداية من إدراك أن الكلمة الملوثة قادرة على أن تهدم أكثر مما تهدم قنبلة، وأن تحريف فكرة واحدة قد يفتح الباب أمام خراب وطن بأكمله. لذلك جاءت هذه الحملة لتمارس أعلى درجات الوطنية: حماية العقول من الغزو الفكري المنظم الذي يستهدف إسقاط الأوطان من داخلها.
ركزت الحملة على أن الوطنية ليست خطابات رنانة ترفع فقط عند الأزمات، بل هي عمل يومي يبدأ من احترام القانون، ويمر بحماية مقدرات الدولة، ويكتمل بالاعتزاز بالتاريخ والإيمان بالجيش والشرطة والقضاء وكل أركان بناء الدولة الحديثة. أرادت وزارة الأوقاف أن تعيد للأذهان أن الدفاع عن الوطن ليس مجرد معركة ميدانية، بل معركة فكرية أولاً، تبدأ بسؤال بسيط: من المستفيد من ضرب الثقة بين المواطن ومؤسسات بلده؟ ومن الذي يربح إذا فقد الشباب إيمانه بقدسية تراب وطنه؟
لم تتوقف الحملة عند النصوص الدينية التي حرّفها المتطرفون، بل تطرقت بذكاء بالغ إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدين والوطن، بحيث يفهم الجميع أن الإيمان الصادق لا يتناقض مع حب الوطن، بل يتكامل معه. وأنه كما أن الصلاة والصيام أركان للدين، فإن حب الوطن والعمل على رفعته ركن من أركان الإيمان الحق.
كان واضحًا أن الحملة تستهدف بالأساس الشباب الذين ظلوا لعقود فريسة لخطابات سوداوية تبثها منصات مأجورة. فجاءت رسائل “صحح مفاهيمك” ذكية ومباشرة: لا تدع أحدًا يسرق وعيك، لا تسمح لكلمات مسمومة أن تنبت في رأسك بذور خيانة. الوطن ليس شعارًا، إنه بيتك وهويتك ومستقبلك. فكما لا يقبل أحد أن يدمر بيته، يجب ألا يقبل بأن يساهم، بقصد أو بدون قصد، في إضعاف بلده.
وتميّزت الحملة بروح عملية غير مألوفة، فلم تكتف بالمواعظ بل انطلقت إلى الجامعات والمعاهد والمدارس ومراكز الشباب، تحدث العلماء والدعاة مع الناس بلغة العصر، بلا تكلف، بلا ترهيب، ولا وصاية فكرية، إنما بالحجة والبرهان والمنطق الواضح. تحدثوا عن الجهاد الحقيقي بأنه هو البناء والعلم والعمل، وعن معنى الشهادة الصحيح بأنه دفاع عن الأرض والعرض والشرف، لا قتل الأبرياء ولا تدمير المجتمعات.
والمهم أن الحملة لم تنحصر في خطاب ديني ضيق، بل أدركت أن المعركة أوسع، فربطت الدين بالثقافة الوطنية، والوعي الديني بالمسؤولية المدنية، حتى خلقت خطابًا جامعًا يرفع قيمة الإنسان باعتباره فردًا في أمة، لا كائناً معزولاً في صراع مع محيطه.
اللافت أيضًا أن الحملة لاقت دعمًا شعبيًا حقيقيًا، لأنها خاطبت الحاجات العميقة للمجتمع، رغبة الناس في وطن آمن مستقر، في دولة قوية تضمن لأبنائها المستقبل. لقد كان المواطن العادي بحاجة إلى أن يسمع أن وطنيته عبادة، وأن خيانته للوطن خيانة لدينه قبل أن تكون خيانة لقانون، فجاءت حملة “صحح مفاهيمك” لتسد هذا الفراغ بصدق ووعي.
وزارة الأوقاف المصرية بحملتها الرائدة تؤكد أن حماية الوطن ليست فقط معارك عسكرية ولا خطط اقتصادية، بل معركة فكرية بالدرجة الأولى، معركة ضد الجهل، وضد التحريف، وضد التيارات التي تتغذى على التشكيك وبث الكراهية. لقد أصبحت معركة الوعي خط الدفاع الأول، ومن هنا تأتي أهمية “صحح مفاهيمك” كأحد أنبل وأعمق مشروعات بناء الإنسان المصري.