بقلم / لارا فاروق
“عندما ألاحظ السعادة تتألق في عيون أصحاب الصم والأشخاص غير الناطقين خلال تواصلي معهم بلغتهم، أشعر أنهم يرون فيّ من يمنحهم العالم بأسره، وكل ما قمت به هو مجرد فهم حديثهم والرد عليهم، لكن تأثير ذلك في نفوسهم يكون عميقًا” هكذا عبرت جوي عن مدى أهمية لغة الاشارة وتأثير فهم اللغة على حياة هؤلاء الأشخاص.
في عالم يزداد فيه التفاعل الاجتماعي والتواصل بين الأفراد، تبرز قصص ملهمة تعكس إرادة الشباب ورغبتهم في إحداث فرق. تدرك جوي صاحبة الـ 17 عاما مسؤوليتها الاجتماعية من خلال تعلمها لغة الإشارة، وهو حلمها الأصغر لتنمية حلمها الأكبر وهو الالتحاق بدراسة طب الطوارئ. تقول جوي: “إنه شعور محبط ألا تجد من يفهمك بسبب شيء خارج عن إرادتك. هناك حوالي ثمانية ملايين شخص من الصم والأشخاص غير الناطقين في مصر يعانون بسبب عدم قدرتهم على التواصل مع الآخرين. والأمر الأكثر إحباطًا هو عندما يكون هؤلاء الأشخاص من المرضى، ولا يستطيعون التواصل مع الأطباء وشرح ما يعانون منه لعدم دراية الأطباء بلغة الإشارة.”
لطالما حلمت جوي بأن تصبح طبيبة طوارئ، حيث تعتبر هذه المهنة من أكثر المهن إنسانية، إذ تتطلب القدرة على التواصل الفعال مع المرضى في حالاتهم الحرجة. ومن هنا، أدركت أهمية تعلم لغة الإشارة لتكون قادرة على تقديم الرعاية اللازمة للأشخاص الذين يعانون من مشكلات في السمع والكلام ، وضمان حصولهم على العناية الصحية التي يستحقونها.
فئة منسية
تُعتبر قضايا الأشخاص الصم وغير الناطقين في مصر من القضايا المهمة التي تؤثر على فئات واسعة من المجتمع. يمثل هؤلاء الأفراد جزءًا حيويًا من النسيج الاجتماعي ولهم حقوق متساوية في التعليم والعمل والتواصل. ومع ذلك، فإن التحديات التي يواجهونها تتطلب اهتمامًا خاصًا من المجتمع والحكومة.
يواجه الأطفال الصم وضعاف السمع تحديات كبيرة في النظام التعليمي، حيث تفتقر العديد من المدارس العامة إلى المعلمين المدربين على استخدام لغة الإشارة أو تقنيات التعليم البديلة. كما أن الفصول الدراسية غالبًا ما تفتقر إلى الوسائل المساعدة، مما يعيق عملية التعلم. وفقًا لدراسة أجرتها منظمة اليونسكو في مصر عام 2020، فإن نسبة المدارس التي توفر تعليم لغة الإشارة لا تتجاوز 15% من إجمالي المدارس في البلاد.
أما في سوق العمل، فإن الأشخاص ذوي الصعوبات السمعية يواجهون تحديات كبيرة في العثور على فرص عمل، مما يزيد من معدلات البطالة بينهم مقارنة بالفئات الأخرى. كثيرًا ما يفتقر أصحاب العمل إلى الوعي بقدراتهم، مما يؤدي إلى تهميشهم. وفقًا لدراسة أجرتها وزارة التضامن الاجتماعي في عام 2019، فإن نسبة المؤسسات الحكومية التي توفر خدمات باستخدام لغة الإشارة لا تتعدى 10%. ووفقًا لجمعية المترجمين المعتمدين بلغة الإشارة في مصر، فإن عددهم لا يتجاوز 200 مترجم معتمد على مستوى الجمهورية.
بالإضافة إلى التحديات التي يواجهها الصم في النظام الصحي في مصر، والتي سلطت جوي الضوء عليها، يُعتبر عدم استماع الأطباء لمرضاهم بعناية من أبرز هذه القضايا. تؤثر هذه الظاهرة سلبًا على جودة الرعاية الصحية ورضا المرضى، وتتفاقم بشكل خاص مع المرضى من الصم وغير الناطقين. لذا، من الضروري تعزيز مهارات التواصل والاستماع لدى الأطباء لضمان تقديم رعاية صحية أفضل وزيادة مستوى رضا المرضى، مما يعود بالنفع على الجميع.
يسهم هذا التمييز في بيئات العمل والتعليم في تفشي العزلة الاجتماعية بينهم، مما يؤثر بشكل عميق على حياتهم اليومية وصحتهم النفسية. وهذا بدوره يحد من قدرتهم على بناء علاقات اجتماعية قوية، مما يزيد من شعورهم بالانفصال عن المجتمع.
يُعتبر دمج الأشخاص ذوي الاعاقة وخاصة ذوي الصعوبات السمعية والكلامية، في المجتمع أمرًا بالغ الأهمية. فوجودهم يعزز من التنوع ويعكس قيم الشمولية والمساواة. وعندما يتمكن هؤلاء الأفراد من المشاركة الفعالة في الحياة اليومية، يساهمون في إثراء التجارب الثقافية والاجتماعية. في هذا السياق، صرحت جوي بضرورة دمج هؤلاء الأفراد في المدارس والوظائف والمجتمعات بشكل عام. أكدت على أن التعليم والتوظيف يجب أن يكونا مفتوحين للجميع دون استثناء، وأن وجودهم في هذه البيئات يسهم في كسر الحواجز الاجتماعية والنمطية. كما أن تواجدهم في المدارس يعزز من وعي الطلاب حول قضايا الاحتياجات الخاصة، مما يساهم في بناء جيل أكثر فهمًا وتقبلًا.
لغة الإشارة… جسر للتواصل
تعلمت جوي لغة الإشارة عن طريق حملة مصرية تسمى “إشارتك” من خلال حضورها أحد المخيمات الصيفية التي تُنظم للمراهقين من سن 12 إلى 18 سنة. كان مؤسسو الحملة مشاركين في هذا الحدث، ويقدمون ورشًا تعليمية حول لغة الإشارة. تضيف جوي أنهم كانوا السبب الأكبر في نجاح هذا المخيم بسبب تفاعلية الجلسات التي كانوا يقدمونها. وتعبّر عن دهشتها من نسبة الصم وضعاف السمع الكبيرة، حيث يكمن نجاح الحملة في زيادة الوعي حول هذه الفئة في مصر، إذ يُعتقد أن حوالي 10% من الصم والأشخاص غير الناطقين في العالم يعيشون في مصر.
بفضل جهود “إشارتك”، تمكنت جوي من تعلم أساسيات لغة الإشارة في وقت قصير، مما زاد من ثقتها بنفسها وجعلها قادرة على التواصل مع المجتمعات المختلفة. وتروي جوي أنها أصبحت قادرة على التواصل مع الصم وغير الناطقين في كنيستها، وتقول إن هناك ابتسامة غامرة تشرق على وجوههم لمجرد وجود شخص قادر على فهمهم والتواصل معهم. هذه الابتسامات والنظرات الممتنة تمنحها شعورًا بالرضا عن النفس، حيث تدرك أن لها أثرًا إيجابيًا في حياة الآخرين، وأن جهودها في التواصل قد أثمرت، مما يحفزها على الاستمرار في تقديم الدعم. لكن القصة لا تتوقف هنا. فقد قررت جوي أن تشارك معرفتها مع أصدقائها، فبدأت بتعليمهم هذه اللغة المهمة والممتعة. أصبحت تجمعهم في جلسات، حيث يتمكنون من التعلم معًا بطريقة تفاعلية وممتعة. هذا ساهم في تعزيز الوعي حول أهمية لغة الإشارة بين أقرانها، وأصبح لديهم جميعًا أساسيات اللغة، مما يمكنهم من التواصل بشكل أفضل مع هذه الفئة .
(المقابلة الأولى الخاصة بالمبادرة )
1st interview
تعتبر لغة الإشارة أداة أساسية في حياة الصم وغير الناطقين، حيث تتيح لهم التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بشكل فعال. ومع ذلك، فإن لغة الإشارة ليست معروفة على نطاق واسع في المجتمع، مما يزيد من صعوبة التواصل ويعزز العزلة. إن تعزيز تعلم لغة الإشارة ونشر الوعي حولها يعد خطوة حيوية نحو تحقيق الدمج الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، فإن التقدم التكنولوجي يقدم فرصًا جديدة لتحسين حياتهم من خلال تطوير تقنيات ومنصات تسهم في تسهيل التواصل وتعليم اللغة، وهذا النهج هو ما تبنته حملة “إشارتك”.
انطلقت حملة “إشارتك” على منصات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك وإنستغرام وفيسبوك، حيث استطاعت جذب انتباه آلاف الأفراد وزيادة الوعي بأهمية التواصل مع الصم وغير الناطقين. تهدف الحملة إلى تعليم لغة الإشارة من خلال مقاطع فيديو قصيرة وألعاب ورقية، بالإضافة إلى تنظيم فعاليات تفاعلية. تقدم الحملة محتوى تعليمي شامل يشمل دروسًا ومقاطع فيديو تفاعلية، مما يسهل على الجميع تعلم أساسيات لغة الإشارة. كما تتضمن الحملة نشر معلومات حول حقوق هذه الفئة وأهمية تضمينهم في المجتمع، مما يعزز الفهم والاحترام ويشجع على تبادل التجارب والمعرفة بين الأفراد المهتمين بتعلم لغة الإشارة.
حظيت حملة “إشارتك” بقبول واسع، حيث تمكنت من الوصول إلى مجتمع كبير من المتعلمين. ساهمت الحملة في تغيير نظرة الكثيرين تجاه الأشخاص الصم وفتحت آفاقًا جديدة للتواصل والمشاركة. ففي غضون ثلاثة أشهر، زادت الحملة الوعي بنسبة 35% من جمهورها المستهدف حول حقوق ومعاناة هذه الفئة ودمجهم في المجتمع، وشجعت 25% من المتابعين على تعلم لغة الإشارة والمعرفة في مجالات الحياة المختلفة. كما حصلت الحملة على إجمالي 37 راعياً، بالإضافة إلى تغطيات إعلامية من 7 صحف و6 قنوات و5 محطات إذاعية مصرية.
رغم النجاح الذي حققته حملة “إشارتك” في تعليم لغة الإشارة، إلا أنها واجهت عدة تحديات، أبرزها:
تنوع لغات الإشارة: تختلف لغات الإشارة من منطقة إلى أخرى، مما يجعل توحيد المحتوى التعليمي أمرًا معقدًا. كان على الحملة مراعاة الفروق الثقافية واللغوية بين المجتمعات، مما جعل توصيل الرسائل أمرًا صعبًا.
نقص مصادر المعلومات: نقص المواد التعليمية المتخصصة والأدلة الشاملة جعل من الصعب تقديم محتوى غني وموثوق للمشاركين. كانت الحاجة ملحة للبحث عن خبراء ومراجع موثوقة لتوفير المعلومات الصحيحة.
تحديات التمويل: نظرًا لأن القائمين على الحملة هم مجرد طلاب، فقد واجهوا صعوبات في تأمين الموارد المالية اللازمة لدعم أنشطتهم. كانت الميزانية المحدودة تحديًا كبيرًا، حيث أثر ذلك على قدرتهم على تنظيم الدورات والفعاليات وإنتاج الألعاب الورقية وشراء المواد التعليمية اللازمة. لذا، كان من الضروري البحث عن رعاة وشراكات مع مؤسسات لدعم الحملة وتمويل فعالياتها.
حلول ممكنة
أشارت كارين إلى مجموعة من الحلول التي يمكن من خلالها تجاوز هذه التحديات، مثل التعاون مع مختصين في لغات الإشارة من مناطق متنوعة لضمان دقة وتنوع المعلومات. كما يُمكن الاستعانة بموارد الاتحاد العالمي للصم لتوحيد المصطلحات والممارسات الجيدة في تعليم لغة الإشارة. ويُعتبر التعاون مع المؤسسات التعليمية والجامعات خطوة مهمة لتطوير مواد تعليمية موثوقة. بالإضافة إلى ذلك، يُمكن التواصل مع الشركات والمؤسسات المحلية للحصول على دعم مالي أو عيني.
وهنا تبرز فاطمة سعد عفيفي، موظفة في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، حيث تختص بتسجيل اللاجئين الذين يعانون من مشكلات في السمع أو الكلام. تتمتع فاطمة بتجربة شخصية تؤثر على عملها، إذ أن شقيقها من ضعاف السمع وغير الناطقين. هذا الأمر جعلها تدرك أهمية دمج هذه الفئة في المجتمع. تحدثت فاطمة عن تجربتها الشخصية وكيف أثرت على رؤيتها لعملها، قائلة: “نشأت في عائلة تدعم شقيقي، مما جعلني أتعلم لغة الإشارة في سن مبكرة. أدركت حينها أن التواصل هو المفتاح لفهم وتقبل الآخرين.”
(المقابلة الثانية الخاصة مع خبيرة في مجال التواصل عبر لغة الإشارة)
2nd interview
أكدت فاطمة على أهمية تعلم لغة الإشارة من قبل المجتمع ككل، مشيرة إلى أن ذلك يسهم في دمج ضعاف السمع والغير ناطقين ويخفف من عزلتهم الاجتماعية قائلة: “عندما نتعلم لغة الإشارة، نفتح أبواب التواصل مع فئة مهمة من المجتمع، ونساعدهم في التعبير عن أنفسهم واحتياجاتهم.”كما دعت فاطمة المجتمع إلى العمل على إزالة الحواجز التي تعيق إدماج ذوي الإعاقة السمعية، حيث قالت: “يجب أن نتعاون جميعًا، من خلال التعليم والتوعية، لنخلق بيئة لا تستثني أي شخص. التغيير يبدأ من الأفراد، ونحن بحاجة إلى دعم جميع الفئات.” تختلف قصص كلا من جوي وفاطمة والقائمين على الحملة ولكنها تتشابه وتتشارك في نفس الهدف وهو خلق بيئة أكثر شمولية وتقبلًا.
تم إعداد هذا التقرير ضمن تدريب إقليمي حول “الصحافة البناءة”، تنظمه مؤسسة مهارات والبرنامج الأوروبي EU Neighbours South، في إطار مبادرة Media Connect.