أقرت الحريات كمبدأ من السماء مع نزول الإسلام ؛ ليرتفع بها أهل الأرض ، وترتقى بها الإنسانية ، ولم تكن يوما وليدة تطور فى المجتمع ، أو نتيجة ثورة طالب بها المحرومون منها ، كما هو الحال عند كثير من الأمم المعاصرة . ومن هذه الحريات : حرية العقيدة ، حرية التفكير ، حرية الرأى ، حرية النفس ، وحرية التملك .
حرية الرأى :
– تعنى حرية الرأى حق الفرد فى اختيار الرأى الذى يراه فى أمر من الأمور العامة أو الخاصة ، وإبداء هذا الرأى وإسماعه للآخرين ، وهى حق الشخص فى التعبير عن أفكاره ومشاعره باختياره وارادته ؛ مالم يكن فى ذلك اعتداء على حق الآخرين .
– وحرية الرأى بهذا المعنى حق مكفول للمسلم وثابت له ، لأن الشريعة الإسلامية أقرته له ، وما أقره الشرع الإسلامى للفرد لا يملك أحد نقضه أو سلبه منه أو انكاره عليه ، بل إن حرية الرأى واجب على المسلم لا يجوز أن يتخلى عنه ؛ لأن الله تعالى أوجب عليه النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يمكن القيام بهذه الواجبات الشرعية ما لم يتمتع المسلم بحق إبداء الرأى وحريته فيه ، فكانت حرية الرأى له وسيلة إلى القيام بهذه الواجبات ، وما يتأتى الواجب إلا به فهو واجب .
* وقد أجاز الإسلام حرية الرأى فى كافة الأمور الدنيوية ؛ مثل الأمور العامة والاجتماعية ، وفى مثال يجسد ذلك ، ما ظهر من سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، رضى الله عنهما ، حين استشارهما الرسول الكريم صل الله عليه وسلم ، فى مهادنة غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى يخرجوا من التحالف يوم غزوة الأحزاب .
– ومن النصوص التى وردت فى النصيحة وفى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قول المولى عز وجل ” والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ” . وقول الرسول الكريم ” الدين النصيحة ” . قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : ” لله ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم ” . قال الإمام النووى فى شرحه لهذا الحديث : ” وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق ، وطاعتهم فيه ، وأمرهم به ، ونهيهم عن مخالفته ، وتذكيرهم برفق ، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين ” .
– كما قال الرسول صل الله عليه وسلم : ” لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ” . وقال أيضا : ” أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ” . وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم تمتعهم بحرية الرأى ؛ وحيث قد أمرهم الله بهذا الواجب ، فهذا يعنى منحهم حق إبداء رأيهم فيما يرونه معروفا أو منكرا ، وفيما يأمرون به وينهون عنه ، وكذلك واجب المشاورة على ولى الأمر يستلزم تمتع من يشاورهم بحرية إبداء رأيهم .
وقد طبقت حرية الرأى على طول التاريخ الإسلامى تطبيقا رائعا ، فهذا الصحابى الجليل الحباب بن المنذر يبدى رأيه الشخصى فى موقف المسلمين فى غزوة بدر على غير ما كان قد رآه النبى ، فيأخذ النبى صل الله عليه وسلم برأيه ، كما أبدى بعض الصحابة رأيهم فى حادثة الإفك ، وكان منهم من أشار على النبى بتطليق زوجته السيدة عائشة رضى الله عنها ، إلا أن القرأن الكريم برأها ، وغير ذلك من المواقف الكثيرة التى كان الصحابة ومن جاءوا بعدهم يبدون فيها آراءهم .
وإذا كانت حرية الرأى والتعبير عنه وإبداؤه من الحقوق المقررة فى الشريعة الإسلامية ، فلا يجوز إيذاء الشخص لقيامه بإبداء رأيه ، لأن الشرع أذن له بذلك ، وقد ردت إمرأة على سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وهو يخطب فى المسجد فى مسألة المهور ، فلم يمنعها ، بل اعترف بأن الصواب معها ، وقال قولته الشهيرة : ” أصابت امرأة وأخطأ عمر ” .
ومما ينبغى للمسلم وهو يستعمل حقه فى إبداء رأيه ما يلى :
– أن يتوخى الأمانة والصدق ، فيقول ما يراه حقا ، وإن كان هذا الحق أمرا صعبا عليه ، لأن الغرض من حرية الرأى إظهار الحق والصواب وافادة السامع به ، وليس الغرض منه التمويه واخفاء الحقيقة .
– أن يقصد بإعلام رأيه إرادة الخير والحق ليس إلا .
– أن لا يبغى برأيه ولا بإعلانه الرياء أو السمعة ، أو التشويش على المحق ، أو إلباس الحق بالباطل ، أو بخس الناس حقوقهم ، أو تكبير سيئات ولاة الأمور ، وتصغير حسناتهم ، وتحقير شأنهم ، والتشهير بهم ، وإثارة الناس عليهم ، للوصول إلى مغنم .
وبناء على ما سبق ، تكون حرية الرأى كما أقرتها الشريعة الاسلامية ، وهى بذلك وسيلة مهمة من وسائل التقدم الحضارى ، كما أنها وسيلة للتعبير عن الذات أيضا .