كلما ذهبت الى مدينة الاسكندرية لابد ان اقضى معظم اوقاتى فى منطقة بحرى بجوار قلعة قيتباى بالانفوشى وقصر رأس التين مع حرصى الشديد على صلاة الجماعة فى مسجد المرسى ابو العباس، وهذه المرة قررت الذهاب الى وسط المدينة متجها الى “حي اللبان” الذي يوجد به منزل “ريا وسكينة” الحقيقي، أفكر في قصة أخطر مجرمتين في تاريخ مصر كما جاء فى الأعمال الدرامية، بداية من مسرحية ريا وسكينة للرائع بديع خيري، بطولة نجيب الريحاني، في عام 1922، التي ظهرت بعد تنفيذ الحكم عليهما بالاعدام، أو من خلال فيلم ريا وسكينة، لنجمة إبراهيم وزوزو حمدي الحكيم وفريد شوقي وأنور وجدي في 1953، ثم فيلم إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة، بطولة إسماعيل ياسين ومعه أيضا نجمة إبراهيم وزوزو حمدي وعبد الفتاح القصري ورياض القصبجى فى 1960، ولا تخلو مشاهد قتل النساء عن بالي في مسرحية ريا وسكينة، بطولة سهير البابلي وشادية وعبد المنعم مدبولي وأحمد بدير عام 1982، وبعد ذلك، الفيلم الكوميدى ريا وسكينة، بطولة شريهان ويونس شلبي وحسن عابدين إنتاج سنة 1983، وكلمات المجرمين الممزوجة بالقوة في المسلسل الإذاعي عودة ريا وسكينة عام 1972 من تأليف عبد الرحمن فهمي، وآخر الاعمال الدرامية التى احب ان اشاهدها، مسلسل ريا وسكينة للنجمة عابلة كامل وسمية الخشاب وسامى العدل ورياض الخولى والتى تم انتاجها عام 2005.
ولدت ريّا في قرية الكلح التابعة لمركز إدفو بمحافظة أسوان في أقصى صعيد مصر في عام 1875، بينما ولدت سكينة في كفر الزيات في عام 1885. توفي والدهما في سن صغيرة، ثم انتقلت الأسرة إلى بني سويف ثم إلى كفر الزيات حيث كانت تعمل الشقيقتان في جمع القطن، تزوجت «ريا» من حسب الله سعيد مرعي وأنجبت منه طفلة تُدعى «بديعة» وطفل آخر توفي بعد ولادته بفترة وجيزة، ثم انتقلت سكينة مع زوجها الجديد إلى الإسكندرية لتقيم في حي اللبان فى عام 1913، ولحقتها فيما بعد أختها ريّا مع أسرتها، تطلقت سكينة من زوجها وتزوجت بمحمد عبد العال الذي كان جارهم في ذلك الوقت.
ومع الظروف الاقتصادية الطاحنة التي واجهت المنطقة أثناء الحرب العالمية الأولى وانتشار البطالة والفقر اتجهت الأسرة للأعمال غير المشروعة والدعارة السرية، ثم بدأوا التفكير في سرقة المصوغات الذهبية من السيدات ثم دفنهن بشكل خفي ولا يترك أي أثر
فى الواقع، لم تأخذ قضية جنائية حجم الاهتمام الرسمي والشعبي، مثل الذي حظيت به قضية ريا وسكينة، وبعد انقضاء اكثر من مائة عام على إعدامهما فى21 ديسمبر 1921، لا تزال القضية لغزا محيرا للكثيرين إذ يُثار الجدل حولهما.
مؤخرا، ادّعى سيناريست أنه تحقق من القضية، وتوصل إلى براءة ريّا وسكينة، كما أنه يعمل على إنتاج وثائقي (لم يبث حتى الان) يتناول سردية البراءة، التي تقول إن ريّا وسكينة تعاونتا مع الجهاز السري لثورة 1919 لمواجهة الاحتلال الإنجليزي الذي لفق لهما القضية حتى يتخلص منهما.
بين هذا وذاك تبرز رواية رصينة تنظر للحكاية الأشهر كونها جزء من نسيج اجتماعي، صاحب هذه الرواية الكاتب الراحل صلاح عيسى، مؤلف كتاب “رجال ريّا وسكينة” الذي قدم فيه سيرة اجتماعية عن الشقيقتين من واقع ملف القضية، التي تشمل تحقيقات النيابة وجلسات المحاكمة، وكذلك تحريات البوليس.
إلى جانب ذلك أصبغ عيسى على روايته روح المجتمع الذي نبتت فيه بذور القتل، فلم يبرؤهما، لكنه نظر إلى القصّة من زاوية أكثر واقعية بعيدا عن المغالاة في شيطنة ريّا وسكينة، أو التصالح مع كونهما أجرمتا في حق المجتمع، لكنه حاول تقديم الحقيقة بتجرد.
واعتبر عيسى ريّا وسكينة من ضحايا الظروف القاسية التي يعانيها البشر، فكانت نشأتهما في قرية الكلح القريبة من أسوان، حيث الفقر المدقع، ثم هجرتهما إلى الشمال، وحياة الكد والحرمان التي عاشتاها، حتى استقر بهما المقام في غرف مظلمة تفوح منها رائحة الفقر بمدينة الإسكندرية.
يرى الكاتب الراحل أن هذه الحياة كانت دافع المرأتين إلى إعمال غير أخلاقية ثم السرقة والقتل، لكنه حاول أن يفند المبالغات التي ساقتها الروايات المغلوطة التي نُقلت عن ريّا وسكينة، وأصبحت في منزلة الحقائق والمسلمات.
من بين تلك المبالغات ما نقلته الكاتبة الراحلة لطيفة الزيات عن ريّا وسكينة، حيث قالت إن والدتها روّت لها طقوس القتل التي اتبعتها الشقيقتان، إذ كانت تبدأ باختيار الضحية، واصطحابها إلى البيت، ثم خنقها، وتمزيق جثتها إلى أجزاء، وحرق الأجزاء في الفرن، إلى جانب أصوات الدفوف التي كانت تغطي على أصوات الاستغاثة.
يدحض عيسى رواية الزيات من واقع أوراق القضية، إذ لم يعثر الطبيبان الشرعيان “سيدني سميث” و”عبد الحميد عمار” اللذان قاما بفحص جثث الضحايا على أية كسور في العظام اللامية، وهي عظام الرقبة التي يدل كسرها على أن الخنق هو سبب الوفاة، ورجحا أن تكون عمليات القتل تمت عن طريق كتم الأنفاس.
إلى جانب ذلك لم يجد الطبيبان أي دليل على تمزيق الجثث التي عثر على هياكلها العظمية في حالة سليمة تماما، أما رواية الحرق فلم يدعمها واقع حياة ريا وسكينة كانت أفقر من أن يمتلكا فرن لطهي الطعام فيه.
وتظل حكايات ريا وسكينة لغزا محيرا للجميع، وسنواليكم فى المقالات القادمة عن كل جديد من حكايات ريا وسكينة.