
كانت مصر من بين أوائل الدول التي انتبهت مبكراً إلى مدى تأثير وسائل الإعلام الحديثة على الجماهير لما لها من سرعة في الوصول، وقدرة على الانتشار الواسع، وقوة في التأثير على الجماهير المستهدفة بالرسالة الإعلامية بمحتواها المعد سواء عبرت هذه الرسالة عن وجهة نظر الدولة في قضايا بعينها محلية أو إقليمية أو دولية بما يمكن تسميته بوجهة النظر الرسمية؛ أو عبرت عن جوانب التثقيف والترفيه والإخبار بصفة عامة وهو جانب مهم من فلسفة وجود أي وسيلة إعلامية سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية.
وإذا كانت الدولة المصرية قد عرفت الصحافة مبكراً، وامتلكت الحرف المطبوع قبل غيرها من دول كثيرة بالمنطقة، فإنها قد أحسنت توظيف هذه الوسيلة جيداً بحيث صارت قوة فاعلة ومؤثرة وهي تحمل زاداً معرفياً متنوعاً إلى الأشقاء في الدول العربية، فصارت الصحافة عموماً ومعها الكتاب بتنوع موضوعاته من الأدوات الهامة التي تعتمد عليها القوى الناعمة المصرية، تلك القوى التي ساهمت بشكل كبير في تقويم اللسان العربي وإعادة الاعتبار للغة العربية في بلدان كادت أن تنسى لغتها الأم لصالح لغات القوى الاستعمارية.
ومما لا شك فيه أن وصول المطبوعات المصرية إلى الأشقاء قد ساهم في ذيوع الثقافة المصرية وانتشارها في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه.؛ إذ كان المواطن العربي متلهفاً على كل ما تدور وتدفع به المطابع وتحمله وسائل النقل المتاحة إلى تلك الدول الشقيقة التي كانت كلها تصبو إلى مستقبل يليق بأهلها الذين ظلمتهم ظروف كثيرة عطلت من انطلاقهم سواء كانت تلك الظروف محلية أو لعبت في وجودها أطراف دولية بعينها.
ومثلما ساهم الحرف المطبوع في ذلك الألق المصري في محيطه الإقليمي؛ ساهمت أيضاً وسائل أخرى في زيادة هذا الوهج لعل من أهمها الإذاعة المسموعة لفترة، ثم الإذاعة المسموعة والمرئية “التليفزيون” من بعد ذلك، وصولاً إلى القنوات الفضائية التي سبقت بها مصر غيرها من دول الجوار لسنوات قليلة تكاد لا تذكر.
وقد ظلت مصر تقبض على كثير من التأثير الإعلامي في المنطقة العربية بفضل أدواتها وأذرعها الإعلامية القائمة والقادرة على الوصول في أي وكل وقت حتى السنوات الأولى من البث الفضائي المصري الذي تزامن مع أحداث حرب الخليج الثانية، فاستفادت مصر من القمر الصناعي العربي “عرب سات” في بث قناتها الأولى وصولاً إلى سرعة امتلاك مصر لقمر صناعي جديد وحديث هو “نايل سات” والذي تم تحميل القنوات المصرية عليه وهي تتوالد الواحدة تلو الأخرى، وفي المقابل شهدت هذه الفترة والتي أعقبت إطلاق النايل سات ميلاد كثير من القنوات الفضائية العربية خصوصاً من منطقة الخليج العربي، وكانت كلها قنوات عامة تذيع المحتوى المتنوع قبل أن تكون هناك فضائيات متخصصة فيما بعد؛ وكان أهمها الفضائيات الإخبارية بالطبع، فضلاً عن فضائيات متخصصة في السينما والدراما والطرب وغيره.
ومنذ ذلك التاريخ لم يعد الفضاء ساحة خالية لأدوات ووسائل الإعلام المصرية إذ برزت إلى الواجهة قنوات شقيقة حديثة التأثيث ومالكة لأدواتها، ولم تكن أبداً مجرد أرقام في الفضاء بل ولدت وهي تعي رسالتها..
ويمكن القول إن الدول الشقيقة كانت قد استوعبت دروس التاريخ جيداً، وأتاحت لها الوفرة المالية التي أتاحتها تجارة البترول الأموال اللازمة لبناء إمبراطوريات إعلامية تمتك أحدث تقنيات البث فضلاً عن استقطابها للكوادر المؤهلة سواء أكانوا من العرب أو من أبناء تلك البلاد التي لم تستنكف الاستفادة من كل صاحب فكر وإبداع مهما كانت جنسيته طالما عمل على تحقيق سياسة الوسيلة التي يعمل بها.
ونستطيع القول بأن مصر وإن كانت قد سبقت غيرها من الدول العربية في البث الإذاعي أو التليفزيوني الأرضي أو الفضائي فإنها لم تستطع أن تحافظ على سبقها وريادتها؛ لأنهما أي السبق والريادة تراجعا أمام قنوات عربية استطاعت ليس فقط جذب الانتباه بل وشد المتلقي إليها شداً حتى وقع في أسرها لقوة مادتها؛ وحداثة خطابها الذي ساهمت في صنعه عقول وخبرات وكوادر استحقت أماكنها؛ وأصبحت مثل تلك الفضائيات المستجدة وخصوصاً الإخبارية منها بمثابة لسان حال المتلقي العربي بعيداً عن الإعلام الرسمي المتكلس في هذه الدولة أو تلك، فضلاً عن وسائل الإبهار الأخرى سواء في الصورة أو الديكورات وقبل ذلك المحتوى المعد باحترافية السهل الممتنع في أوقات، والدسم المتخصص في أوقات أخرى.
وقد عادت مصر لتنافس من جديد في مجال الصورة بإعلام مرئي ومسموع متخصص؛ فأطلقت مجموعة من القنوات ضمها قطاع مستحدث باتحاد الإذاعة والتليفزيون هو قطاع النيل للقنوات المتخصصة؛ فصارت لديها قنوات للسينما والمنوعات والثقافة والتعليم وغيرها؛ وكان من الممكن لهذا القطاع لو أحسنت عملية إدارته وتنميته أن يكون قطاعاً متفرداً يحقق رسائل التنوير المطلوبة والدخل الاقتصادي الوفير؛ لكن التجربة المصرية وإن كانت قد ولدت وخرجت إلى الحياة إلا أن الأجواء التي كانت تحيط بتلك القنوات الجديدة منذ لحظة الميلاد كانت أجواء خانقة وتغذيتها كانت عزيزة لعوامل كثيرة يلخصها انتباه دول الخليج إلى مثل هذا الإعلام المتخصص وأهمية امتلاكه؛ فأطلقت فنواتها المتخصصة بإمكانياتها الفنية التي تتفوق بكثير على إمكانيات القنوات المصرية؛ فأصابتها في مقتل خصوصاً أن بعض تلك القنوات العربية كانت تمتلك معظم أرشيف السنيما المصرية؛ فضلاً عن ميزانياتها الضخمة وتمويلها الذي لا ينضب؛ ومن ثم وجدت القنوات المصرية نفسها في ورطة لقلة ما تحت أيديها من مواد لها الحق في عرضها؛ أو القدرة على الشراء والمنافسة، أو حتى تدبير الموارد اللازمة للاستمرار في البث
ويمكن القول أنه وعلى الرغم مما سعت إليه الدولة من محاولة الإمساك بناصية الإعلام من جديد إلا أن الواقع بآلياته ومستجداته كان أقوى من كل محاولة قامت بها الدولة المصرية، فمن ناحية سارت قنوات النيل المتخصصة في طريق الخفوت الذي سارت فيه القنوات المصرية الأقدم حتى بدا أن إهمال ماسبيرو وعدم العناية به كان متعمداً في كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من اضطلاع جهات بديلة بمهمة محاولة استنهاض الإعلام المصري من خلال إذاعات حديثة، وقنوات جديدة بمحتوى مغاير وإبهار لافت إلا أن ذلك كله لم يستطع أن يعيد لمصر الزمام من جديد؛ فالمنافسة قد تعدت مرحلة الشراسة إذ لم يكتف الأشقاء العرب بقنواتهم المبهرة التي تبث من بلادهم أو غيرها فأطلقوا قنوات جديدة تحمل اسم مصر وتبث من مصر وتحظى بمتابعة ومشاهدة مرتفعة من جانب الجماهير المصرية.
ولعل في لجوء دول خليجية على إطلاق تلك القنوات ما يؤكد على الاستراتيجية التي تعمل عليها تلك الدول وهي السيطرة على العقل المصري من خلال محتوى يصله داخل بيته لصالح أهداف إعلامية وسياسية واقتصادية أخرى تهتم بها مثل تلك الدول.
إن المراهنة على امتلاك وتوجيه العقل المصري قد تحرز نقاطاً في بعض الأحيان ولكنها لن تحرز نصراً في النهاية ربما لأن جينات الشخصية المصرية تختلف عن غيرها من جينات الغير بما تستند عليه من إرث حضاري يسكن كل ذراتها ويتبدى في المنعطفات والأحداث الخطيرة.
وللحديث بقية