لن تمحو يد السنون من عقلى وقلبى ذلك اليوم الذى خرج فيه الرئيس الفرنسى ايمانويل مكرو من قصرها الهادئ فى منطقة ( الرابيه ) قرب إنطلياس بشمال بيروت بعد زيارة خاصه جدا لها وهى الرمز الوطني الذى يلتقي على اسمه اللبنانيون ولا يتفرقون وتجسده فيروز ..
كانت تلك الزياره فى اغسطس عام 2020 ……………
…. ورفض الرئيس الفرنسى ان تودعه خارج القصر احتراما وتقديرا لها ولتاريخها ومكانتها الرفيعه … وهو الذى اطلق عليها وصف ( سيده من ذهب ) … وقفت فى الشرفه تنظر الى موكبه وهو يغادر … وغاب الموكب وظلت لفترة طويله فى الشرفه وهى تنظر الى السماء تدعو الله ان يحفظ لبنان .. ولكنها شعرت بالخوف والقلق ( فجأة ) .. وكأنها ترى المستقبل … وسرعان مااتصلت بابنها الموسيقار زياد رحبانى لتعبر عن قلقها وخوفها من المستقبل وانها تشعر بجريمه سيكون السبب فيها حزب الله وستكون هناك معركه بين اسرائيل وحزب الله ستأكل الاخضر واليابس .. وفيروز كما وصفتها ابنتها ( ريما الرحبانى ) انها صاحبة نظره مستقبليه وتتوقع كثير من الامور التى يصدق فيها توقعها …. وبالفعل ماتوقعته فيروز حدث .. واشتعلت الحرب وتم اغتيال حسن نصر الله امين عام حزب الله .. وبعده الامين العام التالى بعد نصر الله .. ثم كبار قادة الحزب …
هاهى الان ( 90 ) عاما …. تسقط من عينيها دمعتين حزينتين بعد ان سمعت بقرار وقف اطلاق النار فى لبنان … ثم ابتسمت .. ثم انتقلت الى عالم الذكريات :-
عمر طويل .. ورحلة مليئة بالاحداث … لن تمحو يد السنون من ذاكرتها قسوة الحرب الاهليه فى لبنان .. حيث مشاهد الدمار والخراب والدم … حتى بيتها الذى شهد ميلادها .. اصبح بيتا مهجورا …. نعم .. نعم بيتها حيث ولدت … … انها تتذكر الاحداث كلها … ..
لم يكن زقاق البلاط) فى الحى القديم داخل منطقة (قضاء الشوف) بجبل لبنان بالقرب من بيروت العاصمه … لم يكن زقاق البلاط يتوقع كل هذه السعاده التى انتشرت فى كل البيوت بسبب خبر سعيد فى بيت ( وديع حداد )موظف مطبعة اهم الجرائد فى لبنان وقتذاك … وبالطبع ليس وديع حداد القيادي الفلسطينى المعروف وأحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين… لا. لا .. لا … وديع حداد فى هذا المقال هو اللبنانى الكاثوليكي السرياني … من اصل سورى … وديع حداد .. وليس الفلسطينى ………..
اهتز الزقاق كله فرحا بمولد طفلة وديع حداد .. الجميله ( نهاد ) التى اصبحت فيما بعد العملاقة القديره السيده الفنانه العظيمه الخالده سفيرة الغناء فى الوطن العربى ( فيروز ) والتى احتلت فيما بعد مكانة عالميه واصبحت ثانى اجمل صوت فى الكون وقتذاك بعد الفنانه الامريكيه ( ماريا أندرسون ) ….
احتفل زقاق البلاط بمولد نهاد وديع حداد .. فى الوقت نفسه كان الرئيس اللبنانى (حبيب باشا السعد) أول رئيس ماروني للجمهورية اللبنانية بعد إعلان الدستور .. كان يواجه حرب شرسه مع خصومه خاصة مجموعة سلفه الرئيس ( شارل دباس ) وهى المجموعه التى كانت تختبئ بين الناس فى ( زقاق البلاط ) وكانوا مصدر ازعاج ومشاكل لاهل الزقاق الذى كانت تسوده المخاوف والرعب . . الا ان فرحة اهل زقاق البلاط كانت اكبر من الخوف .. ربما كان الشخص الوحيد الذى ظل الخوف والقلق والتوتر بداخله هو وديع حداد نفسه بحكم كونه احد اهم العمال فى مطبعه تنشر يوميا اخبار سياسيه مزعجة للمواطن والسلطه معا هو وحده الذى كان يعرف قبل الجميع كل الاخبار السياسيه المزعجه … خاصة ان العام الذى ولدت فيه نهاد حداد او ( فيروز ) كان عام ( الفصل ) بين كل اطراف النزاع .. ولم يكن هناك الا شهور قليله ويرحل الرئيس حبيب باشا السعد .. وهناك ثلاثى شرس كل منهم يسعى لمنصب الرئيس وهم ( ايميل اده ) عن الكتله الوطنيه و (الفريد جورج ) عن حزب الكتائب اللبنانيه و المستقل ( ايوب ثابت ) …
ورغم قلق عامل المطبعه ( البسيط ) وديع حداد الا انه كان سعيدا بطفلته الجميله … نعم .. نعم .. فيروز كانت طفله جميله وديعه …
مر عام وثلاثه وخمسه والطفله تزداد سكينه وهدوء ووداعه .. بل كانت تتحلى بصوت ملائكى لامثيل له . . وعندما بلغت العاشره وقد حفظت عشرات الاناشيد اصبحت فيروز اهم صوت فى لبنان .. صوت تميز بالقوة والجمال رغم صغر سنها …
نعود سنوات قليله قبل بلوغ فيروز 10 سنوات .. حيث انتهى الانتداب الفرنسى فى لبنان .. ثم جاء اول رئيس لبنانى بعد الانتداب وهو الرئيس الراحل ( بشارة الخورى ) عن الكتله الدستوريه وظل رئيسا 9 سنوات ثم جاء بعده ( الرجل العسكرى ) فؤاد شهاب اول قائد للجيش اللبنانى قبل الرئاسه .. خلال تلك الفترة من عام ( 1945 ) عندما كانت فيروز فى العاشره من عمرها .. وحتى عام ( 1952 ) حيث اصبحت فيروز ابنة 17 عاما .. و خلال تلك الفتره اكتشفها الملحن الكبير الموسيقار اللبنانى( محمد فليفل ) عندما كانت ابنة 14 عاما وتبنى صوتها وكان سببا فى التحاق فيروز بمعهد الموسيقى .. ثم انضمت إلى فرقة الإذاعة وبعد أربع سنوات من الدراسة في المعهد .. نجحت أمام لجنة فحص الأصوات برئاسة العبقرى الفذ الموسيقار العظيم (حليم الرومى ) والد المطربه اللبنانيه الرقيقه ( ماجده الرومى ) … وحليم الرومى هو الذى اطلق اسم ( فيروز) على الشابه الجميله ( نهاد حداد ) ..
عام 1952 هو عام الاحداث السياسيه ( الغريبه والمريبه والغامضه) و التى كانت مزعجة فى بعض الاحيان … حيث تم الانقلاب على ملك مصر والسودان جلالة الملك الراحل فاروق .. حدث مهم جدا اطلق عليه البعض لفظ ( حركة الجيش ) ثم كلمة ( ثورة ) .. والمدهش حقا ان اول من قام بتهنئة اللواء محمد نجيب هو الرئيس اللبنانى فؤاد شهاب … لماذا الامر يثير الدهشه .. لان فؤاد شهاب هو الارستقراطى الثرى ابن ( الامير عبدالله شهاب والشيخة بديعة حبيش ) عائله ثريه ارستقراطيه من بلدة (غزير الكسروانية ) في جبل لبنان وهى عائلة مارونية الجد الاكبر هو الأمير بشير الثاني الكبير ، حاكم جبل لبنان من عام 1788 إلى عام 1840 وقد صدمه الفقر فجأة وفقد كل مايملك … الا ان الابناء والاحفاد صنعوا المجد والثراء مرة ثانيه ..
وهو العام الذى شهد تتويج الملكة الراحله (إليزابيث ) الثانية لتصبح ملكة لبريطانيا بعد وفاة الملك السابق جورج السادس .. ايضا هو العام الذى شهد التجارب النووية في صحراء نيفادا .. وشهد معاهدة ( تايبيه ) وهى معاهدة السلام بين اليابان وجمهورية الصين .. ولن يمحو التاريخ من الذاكره العربيه ان فى هذا العام طلب الجيش الأردني من الملك طلال الاستقالة بسبب المرض العقلي وخلفه ابنه الحسين .. وعام 1952 شهد احداث بالغة الاهمية فى الجزائر قبل احداث الثورة فى عام 1954 والتى وللاسف شاركت فيها مصر بالكثير والكثير والكثير وكانت العواقب وخيمه على مصر …
الخمسينيات كانت فترة الاحداث البالغه الاهميه … ولكن على الجانب الاخر .. تعرفت فيروز في بداية الخمسينيات على الأخوين رحباني اللذان بدأت معهما مشوار فنى رائع اثمر المئات من الأغاني وصل عددها إلى 800 أغنية وثلاثة أفلام وأربعمائة ألبوم وايضا المسرحيات الغنائيه الناجحه خلال فترة زمنية امتدت لثلاثة عقود … وفى الثمانينيات تحولت فيروز 360 درجه ..
ولكن ان عدنا الى الخمسينيات والستينيات فهناك احداث اخرى واسرار مؤلمه ومؤسفه سواء فى مصر او لبنان او فى الشرق الاوسط بشكل عام .. مصر شهدت ( بدون ترتيب الاحداث ) كوارث .. ومنها عدوان 56 وازمة الكونغو وحرب اليمن وعار هزيمة 67 والمعتقلات والتعذيب فى السجون الحربيه والرقابه على الصحف و..و ..و ..و ..و ..و ..و الخ من قائمة الخراب الذى هجم على مصر .. وفى لبنان اختارت السيده فيروز البعد تماما عن السياسه او الحديث ولو بكلمه عن السياسه التى شهدت احداث مؤسفه فى لبنان بداية من فترة تولى الرئيس ( شارل حلو ) .. مرورا بالرئيس (سليمان فرنجيه) .. ومن بعده الرئيس ( الياس سركيس) .
ثم جاء الموسيقار زياد رحبانى ابن السيده فيروز ليضع امه فى مواقف مؤسفه وخطيره خلال تصريحاته السياسيه ( الغبيه ) والغريبه …
نلتقى فى الحزء الثانى من هذا المقال .. حيث صراع السيده فيروز مع الايام ومعركتها مع الصحف والمجلات وموقفها الصارم امام كل من كان يحاول ضمها الى عالم السفاله .. عالم ( السياسه ) … الا ان فيروز اكدت انها سيده من ذهب كان الوطن عندها اغلى من زياد رحبانى ابنها المزعج …
كل تلك السطور ماهى الا ذكريات عاشتها فيروز .. بعد سماعها خبر وقف اطلاق النار .. والانتهاء ( تقريبا ) من الحرب بين (العدو) الاسرائيلى وحزب الله ( المندفع ) … تقريبا هى جزء من ذكريات اخرى عاشت فيها فيروز بعد مغادرة الرئيس الفرنسى لقصرها فى اغسطس ٢٠٢٠ .. بناء على طلبه .. حيث وقفت فى شرفة القصر .. تنظر الى موكب الرئيس وهو يغادر … ثم انتقلت الى عالم الذكريات ………….
اقترب الفجر … و عادت فيروز من عالم الماضى و الذكريات .. الى عالم الحاضر .. وكان البرد شديدا … فتركت الشرفه ودخلت الى غرفة نومها وهى تبتسم ابتسامه حزينه مع دموع متحجره . . واستسلمت لنوم عميق …
تحية تقدير واحترام للسيده فيروز ابنه الـــ 90 عاما .. تحيه الى نهاد الصغيره ابنة وديع حداد التى اصبحت وحيدة قصر الجبل حيث تقيم الان …
مبروك لبنان واهل لبنان وللعرب جميعا .. مبروك وقف اطلاق النار